كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين لهم، فأهلك القرى بأهلها الظالمين:
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}..
وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال.. والاختلال!
فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع..
والتعقيب الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا أو ذاك:
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..
لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض.
ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة إلا الذين أدركتهم رحمة الله الذين اهتدوا إلى الحق والحق لا يتعدد فاتفقوا عليه.
وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال.
ومن المقابل الذي ذكره النص:
{وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلئ بهم كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة!
والخاتمة الأخيرة. خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله ويتوكل عليه، ويدع القوم لما يعملون..
{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}..
ويا لله للرسول صلى الله عليه وسلم لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه:
{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}..
{وجاءك في هذه الحق}..
أي في هذه السورة.. الحق من أمر الدعوة، ومن قصص الرسل، ومن سنن الله، ومن تصديق البشرى والوعيد.
{وموعظة وذكرى للمؤمنين}..
تعظهم بما سلف في القرون، وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه.
فأما الذين لا يؤمنون بعد ذلك فلا موعظة لهم ولا ذكرى. وإنما الكلمة الفاصلة، والمفاصلة الحاسمة:
{وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون}..
كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلاقونه.. وما ينتظرونه غيب من غيب الله:
{ولله غيب السماوات والأرض}..
والأمر إليه. أمرك وأمر المؤمنين، وأمر الذين لا يؤمنون، وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما سيكون.
{فاعبده}..
فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة.
{وتوكل عليه}..
فهو الولي وحده والنصير. وهو العليم بما تعملون من خير وشر. ولن يضيع جزاء أحد:
{وما ربك بغافل عما تعملون}..
وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية. بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطوار القرون..
وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن.
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً..
وبعد. فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها بل المتتبع للقرآن المكي كله يجد أن هناك خطاً أصيلاً ثابتاً عريضاً عميقاً، هو الذي ترتكز عليه؛ وهو المحور الذي تدور حوله؛ وإليه ترجع سائر خطوطها، وإليه تشد جيمع خيوطها كذلك.. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله.. وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلاً..
وسنحتاج في التعقيب الإجمالي على هذه السورة أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور كما يتجلى في سياق السورة وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئاً ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به، ربطاً لأجزاء هذا التعقيب الأخير:
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية..
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره.. وتقرير أن هذا هو الدين كله.. وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة.. كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها..
فيبقى هنا أن نجلي أولاً طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة:
إن حقيقة توحيد العبادة لله ترد في صيغتين هكذا:
{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير...} وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي.. فهل مدلولهما واحد؟. إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه.. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله..
والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه.. ولكن الأول منطوق والآخر مفهوم.. ولقد اقتضت حكمة الله في بيان هذه الحقيقة الكبيرة عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوماً ومتضمناً في الأمر الأول!
إن هذا يعطينا إيحاء عميقاً بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان الله سبحانه، بحيث تستحق ألاّ توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه؛ وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم!
كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها.
عبادة الله. وعدم عبادة سواه.. أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء. وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه. وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده.. ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله، ولا يتركون عبادته، ولكنهم مع هذا يعبدون معه غيره؛ فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون!
ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معاً؛ بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة..
وقد تكرر مثل هذا في التعبير في مواضع شتى؛ هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها:
{ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 1- 2].
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} [هود: 25- 26].
{وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} [هود: 50].
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51].
{ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} [آل عمران: 67].
{إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام: 67].
وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصاً منطوقاً على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله سبحانه بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد.. ولله الحكمة البالغة.. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ثم نقف أمام مدلول مصطلح العبادة الوارد في السورة وفي القرآن كله لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة.
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه في هذه السورة ما هو مدلول مصطلح العبادة الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسول الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام.. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات:
إن إطلاق مصطلح العبادات على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق مصطلح: المعاملات على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخراً عن عصر نزول القرآن الكريم؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفاً في العهد الأول.
ولقد كتبنا من قبل في كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته شيئاً عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات: إن تقسيم النشاط الإنساني إلى عبادات ومعاملات مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة الفقه. ومع أنه كان المقصود به في أول الأمر مجرد التقسيم الفني الذي هو طابع التاليف العلمي، إلا أنه مع الأسف أنشأ فيما بعد آثاراً سيئة في التصور، تبعها بعد فترة آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة العبادة إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله فقه العبادات. وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.
ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً.
وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج..
ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى العبادة في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله سبحانه بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!.
وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم العبادات وخصوها بهذه الصفة على غير مفهوم التصور الإسلامي حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها.
وهي انها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم المعاملات.. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه بالألوهية.
إن ذلك التقسيم مع مرور الزمن جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادات وفق أحكام الإسلام بينما يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله!.